الخميس, ديسمبر 11, 2025
الرئيسيةتقارير"الوحدة أو الموت": كيف تُصنَع الكراهية وتُباع الأوهام لشعب الشمال..؟

“الوحدة أو الموت”: كيف تُصنَع الكراهية وتُباع الأوهام لشعب الشمال..؟

« أم تي آي نيوز » تقرير : محمد الزبيري

بينما يقف الجنوب العربي على أعتاب استعادة دولته، وتتعالى أصوات الملايين في عدن وحضرموت مطالبة بالاستقلال، تعمل آلة إعلامية وسياسية ودينية ضخمة، مركزها صنعاء، ومأرب وتعز ومختلف محافظات الشمال على مدار الساعة على شن حملات تحريضية قذرة تستهدف شعب الجنوب وتحرض المواطنين اليمنيين على أشقاءهم في الجنوب

تهدف هذه الحملات التحريضية والفتاوى الدينية إلى تصوير استقلال الجنوب ليس كحق سياسي مشروع لشعب عانى من الظلم، بل كـ”خطر وجودي” يهدد كل مواطن في الشمال، وكـ”ردة دينية” عن مقدس لا يجوز المساس به.

هذا السلاح، سلاح الكراهية وتزييف الوعي، هو السلاح الأخير الذي تملكه منظومة الحكم العميقة في صنعاء، والتي ترى في تحرر الجنوب نهاية لنفوذها وهيمنتها التي دامت لأكثر من ثلاثة عقود.

هذا التقرير لا يرصد فقط هذه الحملة الشعواء، بل يغوص في جذورها التاريخية منذ صيف 1994، ويفكك أدواتها، من الشائعات الإعلامية إلى فتاوى التكفير السياسية، ويكشف عن هدفها الحقيقي: ليس الحفاظ على “وحدة” لم تكن يوماً حقيقية، بل الحفاظ على مصالح “هوامير الحرب والسياسة” الذين بنوا ثرواتهم على أنقاض دولة الجنوب ونهب خيراته.

إنه تقرير يسعى لتقديم الحقيقة للمواطن الشمالي البسيط الذي يتم التغرير به، ويؤكد أن معركة الجنوب هي معركة ضد الظلم، وليست حرباً ضد شعب جار.

فتوى 1994: الخطيئة الأولى التي شرعنت الغزو

لكي نفهم عمق التحريض الحالي، يجب أن نعود إلى “الخطيئة الأولى” التي دشنت عصر الظلم: فتوى التكفير الشهيرة التي صدرت عام 1994.
لم تكن حرب صيف ذلك العام مجرد صراع سياسي، بل تم تغليفها بغلاف ديني دموي فخرجت فتاوى من بعض رجال الدين المحسوبين على نظام صنعاء، تُكفّر الجنوبيين وتصفهم بـ”الشيوعيين المرتدين”، وتبيح دماءهم وأموالهم وأرضهم.

هذه الفتوى لم تكن مجرد ورقة، بل كانت رخصة للقتل والنهب، وحولت الصراع من خلاف على بنود الوحدة إلى “حرب مقدسة” ضد “الكفار”.

لقد كانت تلك الفتوى هي الأساس الذي بُني عليه كل ما تلاها وشرعنت لجنود الشمال غزو أرض الجنوب تحت راية “الدفاع عن الإسلام”، بينما كان الهدف الحقيقي هو السيطرة على الثروة والموقع الاستراتيجي.

أثر هذه الفتوى كان مدمراً، ليس فقط على الجنوب الذي تعرض للغزو والنهب، بل على الوعي الجمعي في الشمال، حيث تم ترسيخ فكرة أن الجنوبيين “مختلفون” و”أقل إيماناً” و”مشروعهم خطر على الدين”. وهذا الإرث المسموم هو ما يتم إعادة إنتاجه اليوم بأشكال مختلفة، فكلما طالب الجنوب بحقه، يتم استدعاء نفس التهم القديمة لتأجيج الكراهية وتبرير القمع.

الوحدة.. من مشروع سياسي إلى صنم ديني

أحد أخطر أساليب التحريض هو تحويل “الوحدة اليمنية” من مشروع سياسي قابل للنقاش والتقييم، إلى “صنم ديني” مقدس لا يجوز المساس به حتى وإن كانت هذه الوحدة سبباً لإبادة شعب وقهره وسلب مقدراته وطمس هويته التاريخية وثقافته المختلفة وتقاليده الراسخة في احترام دولة المؤسسات والنظام والقانون.

عملت النخب السياسية والدينية في صنعاء على مدى عقود على “تأميم الدين” لخدمة مشروعها السياسي وتم ربط الوحدة بشكل تعسفي بثوابت الدين، وأصبح المطالب بالانفصال ليس مجرد معارض سياسي، بل “خارج عن إجماع الأمة” و”داعٍ للفرقة” التي نهى عنها القرآن بحسب فتاوى علماء السلطة.

هذا التزييف المتعمد يتجاهل حقيقة أن الوحدة في الأساس كانت اتفاقاً سياسياً بين دولتين، له شروطه وأهدافه، وعندما تم الانقلاب على هذا الاتفاق في 1994، وتحولت الشراكة إلى هيمنة، فقد المشروع مبرر وجوده لكن آلة التحريض ترفض هذا المنطق، وتصر على تقديم الوحدة كـ”قدر إلهي” لا خيار فيه يتم استخدام المنابر الدينية ووسائل الإعلام لترويج فكرة أن “وحدة الأرض” هي من “وحدة الدين”، وأن أي دعوة لتقسيمها هي “مؤامرة على الإسلام” في خطاب يهدف إلى شحن المواطن الشمالي عاطفياً ودفعه للدفاع عن وهم مقدس، بينما هو في الحقيقة يدافع عن مصالح النخب الحاكمة.

صناعة الخوف: “سيطردونكم ويستولون على أموالكم”

عندما تفشل الشعارات الدينية، تنتقل آلة التحريض إلى سلاح أكثر بدائية: الخوف المباشر عبر نشر الشائعات والمقالات بشكل ممنهج عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، تحمل رسالة واحدة للمواطن الشمالي المقيم أو العامل في الجنوب: “استقلال الجنوب يعني طردكم، ومصادرة ممتلكاتكم، والتنكيل بكم” ويتم تصوير الجنوبي على أنه شخص حاقد، ينتظر لحظة الاستقلال لينتقم من كل ما هو شمالي.

هذه الحملة تتجاهل عمداً كل رسائل الطمأنة التي تصدر عن القيادة الجنوبية، والتي تؤكد أن دولة الجنوب القادمة ستكون دولة قانون تنظم وجود الجميع وتحفظ حقوقهم. الهدف من هذا التخويف هو خلق حالة من العداء بين المواطنين البسطاء، وتحويل العامل الشمالي في عدن إلى “جاسوس” أو “طابور خامس” في نظر بعض الجنوبيين، وفي نفس الوقت، تحويله إلى “وقود” لمعركة ترفضها الأغلبية.
إنهم يريدون خلق سيناريو “الأرض المحروقة” اجتماعياً، بحيث يصبح التعايش مستحيلاً، ويجدون بذلك مبرراً لجرائمهم في لعبة قذرة تتاجر بمصائر الناس البسطاء لتحقيق أهداف سياسية.

شيطنة القوات الجنوبية: من “محررين” إلى “ميليشيات”

من المفارقات المذهلة أن القوات المسلحة الجنوبية، التي كانت رأس الحربة في تحرير الجنوب من ميليشيات الحوثي الإرهابية، والتي حاربت القاعدة وداعش بفعالية شهد لها العالم، يتم تصويرها في الإعلام الشمالي على أنها “ميليشيات انفصالية” و”خارجة عن القانون”ويتم تجاهل تضحياتها الجسيمة في الدفاع عن الأرض، والتركيز على أي خطأ فردي لتضخيمه وتصوير هذه القوات كخطر على الأمن والاستقرار.

هذه الشيطنة الممنهجة تخدم هدفين: الأول هو نزع الشرعية عن القوة العسكرية التي تحمي مشروع استقلال الجنوب، والثاني هو إيجاد مبرر لاستمرار وجود القوات الشمالية في مناطق مثل حضرموت والمهرة (قبل تحريرها) تحت ذريعة “الحفاظ على الشرعية” ومواجهة “الميليشيات”.

لقد تم تصوير معركة تحرير وادي حضرموت على أنها “عدوان على الشرعية”، بينما كانت في حقيقتها عملية ضرورية لتأمين الجنوب من خطر الإرهاب والتهريب الذي كانت ترعاه تلك القوات،بينما الحقيقة تقول أنهم يسعون لتشويه صورة “حامي الجنوب” ليتمكنوا من إعادة احتلاله مرة أخرى.

أكذوبة “الخطر على الشمال”

الحجة المركزية في حملة التحريض هي أن استقلال الجنوب يشكل “خطراً استراتيجياً” على الشمال من خلال الترويج لفكرة أن الجنوب المستقل سيتحول إلى قاعدة “للأعداء” (سواء إسرائيل أو غيرها)، وأنه سيتحكم بمصير الشمال عبر السيطرة على الممرات المائية.
هذه الحجة تتجاهل حقيقة بسيطة: إن وجود جنوب غير مستقر، يشعر بالظلم، ويخوض صراعاً مريراً من أجل حريته، هو الخطر الحقيقي على الشمال وعلى المنطقة بأكملها.

الحقيقة هي العكس تماماً حيث أن استقلال الجنوب واستقراره هو مصلحة مباشرة للشمال. فوجود دولتين جارتين، مستقلتين ومستقرتين، يفتح الباب لعلاقات طبيعية مبنية على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، بدلاً من وحدة قسرية أنتجت ثلاث حروب في ثلاثة عقود.

دولة الجنوب المستقلة، التي ستكون مشغولة ببناء مؤسساتها وتنمية اقتصادها، لن تكون لديها مصلحة في تهديد جيرانها. بل على العكس، استقرار الجنوب سيسمح للشماليين بالتفرغ لمواجهة مشكلتهم الحقيقية: ميليشيا الحوثي التي تحتل عاصمتهم، والنخب الفاسدة التي تتاجر بقضيتهم.

لماذا يخافون من الاستقلال؟
إذا كان استقلال الجنوب جيداً للجنوبيين، وجيداً للشماليين البسطاء، فلماذا تعارضه نخب صنعاء بكل هذا العنف والتحريض؟ الإجابة بسيطة ومباشرة: لأنه يعني نهاية “عصر النهب”. فمنذ عام 1994، تحول الجنوب إلى بقرة حلوب لهذه النخب حيث تم نهب ثرواته النفطية والسمكية، وتم الاستيلاء على أراضيه ومؤسساته، وتم تحويل عائداته إلى حسابات خاصة في الخارج.

الوحدة، بالنسبة لهؤلاء، لم تكن وطناً، بل كانت “غنيمة حرب” واستقلال الجنوب يعني أن عائدات نفط حضرموت وشبوة ستذهب لتنمية حضرموت وشبوة، لا لجيوب “الهوامير” في صنعاء. ويعني أن ميناء عدن الاستراتيجي ستديره كفاءات جنوبية لمصلحة الجنوب، لا لمصلحة شبكات فساد متنفذة. ويعني أن قرار الجنوب السياسي والعسكري سيكون في عدن، لا في صنعاء. هذا هو ما يخيفهم. إنها ليست معركة على “وحدة الوطن”، بل معركة على “وحدة الجيب”.
والواقع يقول أنهم يقاتلون ليس من أجل بقاء اليمن، بل من أجل بقاء مصالحهم وامتيازاتهم غير المشروعة.

رد الجنوب: معركتنا ضد الظالم لا ضد المظلوم

في مواجهة كل هذا التحريض، يأتي الرد الجنوبي واضحاً وحاسماً، ليس فقط عبر البيانات السياسية، بل عبر الممارسة على الأرض. إن معركة الجنوب ليست موجهة ضد المواطن الشمالي، الذي هو نفسه ضحية لنفس منظومة الفساد والاستبداد.

إنها معركة ضد القوى الحاكمة التي فرضت الظلم على الجميع، جنوباً وشمالاً. الجنوبيون يدركون أن العامل الشمالي البسيط الذي يبحث عن لقمة عيشه في عدن ليس هو من نهب ثرواتهم أو قصف مدنهم.

لذلك، فإن مشروع الدولة الجنوبية القادمة هو مشروع قائم على المواطنة والقانون بشكل يضمن حقوق كل من يعيش على أرضه، بغض النظر عن أصله أو منطقته، طالما أنه يحترم سيادة الدولة وقوانينها.

إنها رسالة طمأنة عملية، مفادها أن الجنوب يتجه لبناء دولة حديثة تتسع للجميع، لا لتصفية حسابات الماضي وإن مد اليد بالسلام والاحترام المتبادل للجار الشمالي هو الخيار الاستراتيجي للجنوب، لأن بناء الأوطان لا يتم عبر الكراهية، بل عبر التسامح والتطلع نحو المستقبل.

الحقيقة أقوى من الرصاص

قد تنجح آلة التحريض في تضليل البعض لبعض الوقت، لكنها لن تنجح في تضليل كل الناس كل الوقت.
الحقيقة، كالشمس، لا يمكن حجبها بغربال. حقيقة أن الجنوب تعرض لظلم تاريخي، وحقيقة أن شعبه قد اختار طريقه نحو الاستقلال، هي حقائق ساطعة أثبتتها دماء الشهداء، وأكدتها الحشود المليونية، ورسمتها القوات المسلحة على الأرض.

إن الحملات الإعلامية والفتاوى السياسية التي تطلقها صنعاء اليوم ليست علامة قوة، بل هي صرخة الخوف من السقوط الوشيك لإمبراطورية الوهم والنهب.
لقد قال شعب الجنوب كلمته، وهو اليوم يبني دولته بسواعد أبنائه، وقلب يتسع لكل من يبحث عن السلام، وعين تنظر إلى المستقبل. أما أولئك الذين يصرون على العيش في الماضي، ويراهنون على إشعال الكراهية، فسيكتشفون قريباً أنهم يقاتلون طواحين الهواء، وأن إرادة الشعوب في الحرية أقوى من كل آلات القمع والتزييف.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

الأكثر شهرة

احدث التعليقات