« أم تي آي نيوز » صحافي متخصص في الشؤون الأميركية والعربية
كيف نكث ترمب وعده بمهاجمة إيران مثلما فعل دائماً؟
بتوجيه من دونالد ترمب قصفت طائرات “بي-2” الشبحية الأميركية ثلاث منشآت نووية إيرانية هي “فوردو” و”نطنز” و”أصفهان” في خطوة تهدد بتعريض الوجود العسكري الأميركي في المنطقة للخطر، وهو ما عارضه في حملتيه الانتخابيتين عامي 2016 و2024 وأدى إلى انقسام بين مؤيديه. وبذلك يكون ترمب قد نكث عهده المناهض للحرب مثلما فعل دائماً في عهود أخرى سابقة، من وقف حربي أوكرانيا وغزة إلى الاستيلاء على غرينلاند وقناة بنما، ومن الرسوم الجمركية الشاملة إلى قضايا الهجرة والرعاية الصحية، فما تداعيات ذلك؟
طموح زائف
عندما تطرق الرئيس الجمهوري، العائد حديثاً إلى السلطة في خطاب تنصيبه، إلى الشؤون الدولية، كان طموحاً بصورة غريبة، فقد تعهد بأن يكون صانع سلام وموحداً بين عالم منقسم، وبعد وقت قصير قال ستكون الولايات المتحدة أمة لا مثيل لها، مليئة بالرحمة والشجاعة والاستثنائية، وستوقف القوات الأميركية جميع الحروب وتجلب روحاً جديدة من الوحدة إلى عالم كان غاضباً وعنيفاً وغير قابل للتنبؤ على الإطلاق، ومن ثم ستحظى أميركا بالاحترام والإعجاب من جديد.
لكن يبدو أن ما توقعته صحيفة “نيويورك تايمز” آنذاك كان صحيحاً، إذ فشل ترمب فشلاً ذريعاً بعدما تبين أن الظروف الدولية كانت أكثر غضباً وعنفاً وتقلباً مما توقع. وفي حين تمتع ترمب بشرعية ديمقراطية وتفويض لتحقيق ما وعد به خلال حملته الانتخابية، وعلى رأسه وضع “أميركا أولاً” وإنهاء انتظام الولايات المتحدة في صراعات خارجية محفوفة بالأخطار ومكلفة، إلا أن دعمه لهجمات إسرائيل المتصاعدة على إيران وتورط الولايات المتحدة بصورة مباشرة في الصراع يشيران إلى أنه خان تفويضه المناهض للحرب.
ناقض نفسه
كثيراً ما روج ترمب لنفسه كمرشح سلام خلال مسيرته السياسية. ففي عام 2016 انتقد بصورة لاذعة سياسة هيلاري كلينتون الخارجية، مجادلاً بأنها متسرعة في إطلاق النار وأن المغامرات الخارجية لم تنتج سوى الاضطرابات والمعاناة والموت. وفي حملته الانتخابية لعام 2024 عاد إلى هذه الرسالة بوعده باستعادة السلام بعدما زعم أن الرئيس جو بايدن دفع العالم إلى شفا حرب عالمية ثالثة، وعندما تولت كامالا هاريس زمام قيادة الديمقراطيين، حذر ترمب من أنه في حال انتخابها، سينتهي الأمر بأبناء الناخبين الأميركيين وبناتهم إلى التجنيد للقتال في حرب في بلد ما.
كانت ادعاءاته مشكوكاً ومبالغاً فيها، ولكن في كلتا حملتيه الناجحتين أدرك ترمب عن حق ما غفل عنه عديد من الخبراء والسياسيين والليبراليين، وهو أن مواقف مؤسسة الحزب الديمقراطي في السياسة الخارجية لا تتوافق مع آراء معظم الأميركيين، إذ وجد استطلاع رأي أجراه مركز “بيو” للأبحاث في أبريل (نيسان) الماضي أن غالبية الأميركيين (53 في المئة) لا يعتقدون أن الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية مساعدة أوكرانيا في صراعها مع روسيا.
ووفقاً لاستطلاع رأي أجرته وكالة “أسوشيتد برس” ومركز أبحاث الشؤون العامة “نورك” في مارس (آذار)، فإن غالبية كبيرة من الأميركيين يقولون إنهم يريدون وقف إطلاق النار في كل من الصراع الأوكراني – الروسي (61 في المئة) والصراع الإسرائيلي – الفلسطيني (59 في المئة). ووجد استطلاع رأي أجرته جامعة ميريلاند في مايو (أيار) أن غالبية أكبر من الأميركيين يفضلون التفاوض مع إيران (69 في المئة) ولم يوافق على ضرب منشآتها النووية سوى 14 في المئة فقط.
كيف تحول ترمب؟
كان أحد إنجازات ترمب الإيجابية التي لا لبس فيها في ولايته الأولى، هو أنه تمكن من تجنب توريط القوات الأميركية في أي صراعات جديدة واسعة النطاق. ويبدو أن خطابه المناهض للحروب، إضافة إلى رفض هاريس الانفصال عن بايدن في السياسة الخارجية، وتبنيها تأييد عائلة تشيني المرتبطة بحرب العراق، وتحديدها إيران (بدلاً من روسيا أو الصين) كأكبر عدو للولايات المتحدة، كلها عوامل دفعت عديداً من الأميركيين إلى اعتبار ترمب المرشح الأكثر ميلاً للسعي إلى السلام، وبفارق واضح وثق الناخبون بترمب على هاريس في التعامل مع النزاعات الخارجية، لكن توريط ترمب أميركا الآن في حرب من النوع الذي قضى أعواماً في إدانته، فقد ناقض نفسه وانضم إلى سلفه في السماح للتعقيدات الدولية بعرقلة الأجندة المحلية التي انتخب لتنفيذها.
رفض الأميركيون مراراً طريق الحرب في صناديق الاقتراع خلال العقد ونصف العقد الماضيين، منذ أن انطلق باراك أوباما في حملته الانتخابية عام 2007 بخطاب وصف فيه حرب العراق بأنها خطأ مأسوي، واستذكر العائلات التي فقدت أحباءها والقلوب التي تحطمت، وهو ما أدركه ترمب أيضاً أكثر من غالبية السياسيين، وبعدما وعد بشيء مختلف أراده الناخبون بشدة وهو التركيز على القضايا الداخلية بدلاً من الصراعات الخارجية، جر الولايات المتحدة إلى حرب أخرى قد تكون كارثية، ولا يعرف أحد كيف ومتى تنتهي على رغم تعهده في السابق بإبرام اتفاق نووي مع إيران، لأن العواقب “مستحيلة” على حد وصفه.
أحلام تبددت
خلال زيارته الأخيرة للشرق الأوسط أعلن ترمب عن قربه من تحقيق اختراقات دبلوماسية حين أكد أن العالم أصبح أكثر أماناً الآن، وعبر عن اعتقاده أنه سيكون أكثر أماناً خلال أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، لكن بعد خمسة أشهر من توليه منصبه، تبددت توقعات ترمب في شأن قدرة إدارته على وقف جميع الحروب وبعث روح جديدة من الوحدة في العالم، بل إن الأوضاع في أوكرانيا وغزة وإيران أسوأ الآن مما كانت عليه عندما أدلى بتصريحاته المرة الأولى.
طوال حملته الانتخابية، واصل ترمب تعهداته بأنه سينهي الحرب في أوكرانيا في غضون 24 ساعة فحسب، وبأنه سيحاول جاهداً التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل و”حماس” لوقف القتال في غزة، غير أن عهوده في شأن حل حرب روسيا في أوكرانيا ما زالت تمثل إحراجاً مستمراً، وموقف الجمهوريين الأخير هو عملياً، الكف عن المحاولة، بل إن ترمب نفسه قال قبل أسبوعين: “أحياناً يكون من الأفضل تركهم يتقاتلون لفترة” في إشارة إلى صراع كرر كثيراً أنه سينهيه في يومه الأول.
وجاءت وعود ترمب بحل أزمة غزة عقب تأكيده في ديسمبر (كانون الأول) الماضي على مدى سهولة الصراع مقارنة بالحرب في أوكرانيا. وعلى رغم أنه بدأ دورته الرئاسية الثانية بعدما أسهم مبعوثه ستيف ويتكوف في عقد هدنة بين إسرائيل و”حماس”، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عاد إلى الحرب من جديد، وعندما زار البيت الأبيض فاجأ ترمب الجميع بخطة تحويل قطاع غزة إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”، وهدد بالجحيم إذا لم تقبل “حماس” بالإفراج عن المختطفين الإسرائيليين. وبعد أسابيع من القتل والتدمير، عملت حكومة نتنياهو على تجويع الفلسطينيين، وشاركت إدارة ترمب الحكومة الإسرائيلية في فرض نظام جديد لتوزيع المساعدات الغذائية والإنسانية على سكان غزة، وهو نظام انتقدته الأمم المتحدة والمجتمع الدولي. وبينما لا يزال الفلسطينيون يعانون سوء إدارة هذا النظام ويتعرضون للقتل بالعشرات كل يوم، تتركز أنظار العالم على الحرب بين إيران وإسرائيل.
نتنياهو لا يزال يطيل أمد حربه ضد “حماس” ويتخلى عن الرهائن بناءً على طلب حلفائه القوميين والدينيين المتطرفين، فيما يبدو ترمب عاجزاً عن إيقافها ويظهر علامات فقدان الاهتمام.
حتى تعهداته بالاستحواذ على غرينلاند التي تعد أكبر جزيرة في العالم وتتبع الدنمارك عضو تحالف “الناتو” الذي تقوده الولايات المتحدة، ما زالت تراوح مكانها على رغم مواصلة إدارة ترمب مراقبة غرينلاند في شأن دورها المحتمل في الحفاظ على أمن أميركا الشمالية، وفقاً لشهادة أدلى بها وزير الدفاع بيت هيغسيث خلال مثوله الأسبوع الماضي أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب، حيث أوضح أن مهمة وزارة الدفاع هي وضع خطط لأي طارئ، مشيراً إلى أن وزارته تتطلع إلى العمل مع غرينلاند لضمان أمنها من أي تهديدات محتملة، في وقت زار فيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون غرينلاند في الفترة الأخيرة بهدف تعزيز الدعم السياسي الأوروبي للدنمارك وإقليمها شبه المستقل.
كما ظل تهديد ترمب بالسيطرة على قناة بنما أو إجبارها على مرور السفن التجارية والعسكرية منها مجاناً، فارغاً من محتواه. فقد أعلنت هيئة قناة بنما بأنه لم تطرأ أي تغييرات على نظام الرسوم المعمول به، وعلى رغم ما أكدته وزارة الخارجية الأميركية في البداية بأن بنما قد وافقت على الإعفاء من الرسوم، تراجعت الولايات المتحدة عن هذا التصريح لاحقاً، وأقرت بأن لبنما إجراءاتها القانونية الخاصة.
من الرسوم الجمركية إلى الهجرة
لا يقتصر نكث عهود ترمب على أوكرانيا وغزة وإيران وغرينلاند وبنما، فقد أعلن عن فرض الرسوم الجمركية العالمية الشاملة التي يحبها كثيراً، ثم ما لبث أن جمدها لمدة 90 يوماً على أمل أن يعقد 90 اتفاقاً منفصلاً مع 90 بلداً خلال الـ90 يوماً على حد وصف أحد كبار مساعديه، لكن إدارته لم تعقد سوى تفاهمين اثنين فقط مع المملكة المتحدة والصين، في حين ما زالت المفاوضات مع البلدان الأخرى تتعثر وتراوح مكانها، وهو ما يهدد برفع الأسعار على الأميركيين إذا انتهت مهلة الـ90 يوماً.
وفي قضية الهجرة وعد الرئيس ترمب مؤيديه بأكبر برنامج ترحيل للمهاجرين غير الشرعيين في التاريخ الأميركي، لكنه بعيد كل البعد من تحقيق ذلك، حيث رحلت إدارة الرئيس باراك أوباما 438421 شخصاً عام 2013 ولم يقترب أي رئيس منذ ذلك الحين من معادلة هذا الرقم القياسي، بما في ذلك ترمب خلال ولايته الأولى.
وعلى رغم نجاح إدارة ترمب في تقييد أعداد القادمين الجدد عبر الحدود لتصل إلى 7181 شخصاً في مارس الماضي بانخفاض قدره 95 في المئة عن مارس 2024، فإن ترمب يواجه صعوبة في تكثيف عمليات ترحيل المهاجرين غير الشرعيين، إذ ازدادت المعارضة في المناطق الليبرالية، حيث يقيم عديد من المهاجرين غير المسجلين للتعاون مع سلطات الهجرة الفيدرالية. ورداً على ذلك ذهب توم هومان مسؤول الحدود في إدارة ترمب إلى حد تهديد المسؤولين الديمقراطيين بالاعتقال لحمايتهم المهاجرين من الترحيل، ومع ذلك يتمسك المسؤولون الديمقراطيون بموقفهم.
حاول ترمب استخدام أساليب أخرى، وشن مداهمات على أماكن العمل في جميع أنحاء كاليفورنيا، مما أثار احتجاجات حاشدة في لوس أنجليس، كادت تشعل مزيداً من التوترات في كافة أرجاء الولايات المتحدة، بعدما أصر على نشر قوات الحرس الوطني وقوات “المارينز” للحيلولة دون انتشار التظاهرات والعنف. كما حشد موارد فيدرالية من الحرس الوطني إلى مصلحة الضرائب لتحديد هوية المهاجرين غير الشرعيين واعتقالهم، وحث نصف مليون مهاجر من كوبا وهايتي ونيكاراغوا وفنزويلا على ترحيل أنفسهم.
وذهبت الإدارة أبعد من ذلك، حين أرادت إلغاء حق المواطنة بالولادة من الأبناء الذين ولدوا من آباء غير شرعيين أو غير مواطنين، مثل المقيمين موقتاً، مما سيزيد بصورة كبيرة من عدد السكان غير الشرعيين الآن ومستقبلاً، وفقاً لمعهد سياسات الهجرة.
إضافة إلى ذلك تتزايد الشواهد على واقع معاكس لما يتعهد به ترمب. فقد أقسم على سبيل المثال بالحفاظ على الدستور وحمايته والدفاع عنه، ولكن هذا ليس ما يفعله، فهو يحاول هدم جدار التعديل الأول للدستور الذي يفصل الدين عن الدولة، وحدود الفترات الرئاسية بموجب التعديل الـ22، والتعديل الـ14 في شأن حق المواطنة بالولادة، والمادة الأولى من المكافآت وبنود أمر الإحضار. ووعد أيضاً بأنه سيحيط نفسه بأفضل الأشخاص وأكثرهم جدية، إلا أنه بدا مهتماً بكيفية ظهورهم على شاشة التلفزيون وبخاصة قناة “فوكس نيوز” التي يفضلها، وليس بخبرتهم أو كفاءتهم أو ذكائهم. وتشير صحيفة “نيويوركر” إلى أن هذه الحكومة هي الأقل كفاءة في التاريخ، فوزير دفاعه متهم بالسكر والاعتداء الجنسي ووزيرة التعليم لا تجيد التعامل مع الحسابات البسيطة ووزير الصحة والخدمات الإنسانية مشكك في اللقاحات العلمية ولديه نظريات طبية خطرة ورئيس مركز مكافحة الإرهاب التابع لوزارة الأمن الداخلي متدرب سابق عديم الخبرة يبلغ من العمر 22 سنة، تخرج لتوه من الجامعة.
وحينما تعهد ترمب بعدم تمزيق البلاد وتنفيذ القانون والنظام وأرسل قوات لقمع التظاهرات في لوس أنجليس لدعم ضباط إنفاذ القانون الفيدراليين الذين يواجهون احتجاجات ضد حملات الترحيل الجماعي التي شنها، تساءل كثر عن تجاهله إرسال نفس القوات عندما تعرضت قوات إنفاذ القانون في الكونغرس الأميركي للهجوم في السادس من يناير (كانون الثاني) 2001، وبدلاً من ذلك دعم المعتدين العنيفين، واصفاً إياهم بالأبطال، وأصدر عفواً عن المجرمين المدانين وأعضاء العصابات الذين اعتدوا على رجال الشرطة بسبب ادعاءاته في شأن سرقة الانتخابات.
تعهد ترمب أيضاً بأنه لن يمس برنامج الرعاية الطبية “ميديكيد” لأصحاب المدخول المنخفض والمتوسط، لكن مشروع قانونه لتخفيض ضرائب المليارديرات يخفض نحو 600 مليار دولار من مخصصات برنامج “ميديكيد”، مما يعني أن نحو 10.9 مليون شخص قد يفقدون تغطيتهم الصحية خلال العقد المقبل، وقد يموت كثر نتيجة ذلك، كما جرى اقتطاع مئات الملايين من برنامج المساعدة التكميلية للتغذية المخصص للفقراء.
وإذا كانت صحيفة “واشنطن بوست” رصدت ما قاله ترمب خلال ولايته الأولى، وتوصلت إلى قائمة تضم 309573 ادعاءً كاذباً أو مضللاً أدلى به كرئيس، فسينتظر الأميركيون رصد ادعاءاته وتعهداته التي ينكثها في دورته الرئاسية الثانية، ومن ثم يعقدون مقارنة تحسم أي الدورتين تفوز.
