« أم تي آي نيوز » حافظ الشجيفي
أزعم – وأنا أتابع المشهد المتدفق من ساحات الجنوب العربي لليوم الخامس على التوالي – أننا لم نعد أمام مجرد حدث احتجاجي عابر، أو تظاهرة مطلبية يمكن احتواؤها بمسكنات السياسة التقليدية. فما يجري الآن تحت شمس الجنوب، وفي ميادينه التي تكتظ بهذا الطوفان البشري، هو “لحظة الحقيقة” التي طالما حاول البعض القفز فوقها أو تأجيل مواجهتها. حيث نقف أمام مشهد يعيد رسم الخريطة، ليس بالحبر على الورق، ولكن بإرادة البشر وحركة التاريخ في آن واحد.
ودعونا نتفق منذ السطر الأول، وبغير مواربة، أن هذا الحراك المستمر والزخم المتصاعد الذي تشهده مدن الجنوب، يحمل في ثناياه دلالات أعمق بكثير مما قد تظهره عناوين الأخبار العاجلة. فهذه الجماهير التي تفترش الأرض وتلتحف السماء لليوم الخامس على التوالي، لم تخرج لتقول كلمة وتمضي، بل خرجت لتكتب وثيقة ميلاد دولة، ولتؤكد حقيقة راسخة مفادها أن “قضية الجنوب” قد تجاوزت مرحلة “المظلمة” إلى مرحلة “الاستحقاق”.
وفي تقديري، أن المراقب لهذا المشهد الملحمي يشاهد بوضوح خيطا ناظما يربط بين كل هؤلاء المعتصمين، وهو ما يمكن تسميته بوحدة الهدف والمصير فالشعور الساري في هذه الساحات ليس شعورا انفعاليا او عاطفيا مؤقتا، بل هو يقين استراتيجي بأن استعادة الدولة المستقلة لم يعد خيارا مطروحا للتفاوض، بل أصبح قدرا محتوما وضرورة حياة. والحقيقة التي يجب أن تُقال هنا بصوت مسموع، هي أن هذا الشعب قد وصل إلى مرحلة من النضج السياسي والاستعداد للتضحية، على نحو يجعل من المستحيل – وأكرر المستحيل – إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
إنني أنظر إلى خريطة الإقليم، وأقرأ التقارير الواردة من عواصم القرار الدولي، وأشعر أحيانا أن هناك حالة من قصر النظر في استيعاب ما يجري. فالرسالة التي يرسلها الجنوبيون اليوم عبر هذا الاعتصام المفتوح موجهة بالأساس إلى المجتمع الدولي والإقليمي، ومفادها أن المعادلات القديمة قد سقطت، وأن أي محاولة لتجاهل هذه الإرادة الشعبية العارمة هي ضرب من العبث بمستقبل المنطقة واستقرارها.
وعلى العالم أن ينظر بجدية – وباحترام – إلى هذه الحشود. اذ إننا لا نتحدث عن فوضى، بل نتحدث عن “دولة” في طور التشكل، أو بالأحرى دولة جاهزة عمليا لأن تأخذ مكانها تحت الشمس. فالمؤسسات، والكوادر، والأرض، وقبل كل ذلك “الإرادة الشعبية”، كلها عناصر متوفرة وحاضرة. والرهان على عامل الوقت لكسر هذه العزيمة هو رهان خاسر، أثبتت وقائع الأيام وتضحيات السنين فشله الذريع.
وهنا نصل إلى نقطة بالغة الحساسية والدقة، تتعلق بالمجلس الانتقالي الجنوبي. اذ كثيرا ما أسمع في كواليس السياسة من يحاول تصوير المجلس وكأنه مجرد “طرف” أو “مكون” سياسي ضمن مكونات أخرى، وهذا – في ظني – خطأ فادح في الحسابات وقراءة الواقع.
فالعلاقة بين المجلس الانتقالي وهذه الجماهير المعتصمة ليست علاقة حزب بقواعده، بل هي علاقة “تفويض ومصير”. والمجلس الانتقالي في هذه اللحظة التاريخية، وبحكم الأمر الواقع والشرعية الثورية والشعبية، هو “الممثل الشرعي” وحامل لواء هذه القضية. وهو لا يعبر عن رأي سياسي خاص، بل يترجم إرادة شعب كامل بكل أطيافه. ولذلك، فإن أي تعامل دولي أو أممي مع الملف الجنوبي يجب أن ينطلق من مسلمة ان الانتقالي ليس مكون يبحث عن سلطة، بل هو مؤتمن على مشروع استقلال، وهو ملزم أخلاقيا وسياسيا بتنفيذ ما تهتف به الحناجر في الساحات.
إنني أقول وبكل وضوح لصناع القرار في العواصم الكبرى لا تضيعوا الوقت في البحث عن بدائل وهمية، ولا تغرقوا في تفاصيل دبلوماسية لا تلامس جوهر الحقيقة. فالحقيقة موجودة الآن في ساحات الجنوب، حيث يقول الشعب كلمة الفصل بصريح العبارة بان الجنوب لن يتراجع، ولن يتخلى عن مشروعه، وقد أثبتت الأيام الخمسة الماضية – وما سبقها من سنوات نضال – أننا أمام شعب يمتلك “نفسا طويلاً” وقدرة مذهلة على الصمود حتى تحقيق الهدف.
فما نراه في ساحات الاعتصام هو “استفتاء حي” بالدم والروح والصوت العالي. وعلى الجميع أن يدرك أن استقرار هذه المنطقة الحيوية من العالم، والتي تشرف على أهم ممرات التجارة الدولية، مرهون باحترام إرادة شعب الجنوب في استعادة دولته. فهي ليست مجرد مطالب، بل حقائق جغرافيا وتاريخ وهوية تفرض نفسها بقوة، ومن الحكمة – كل الحكمة – أن يُستمع إليها الآن، قبل فوات الأوان.

