الأربعاء, سبتمبر 3, 2025
الرئيسيةتغريدات و آراء و كتابمشاورات خطة الإنقاذ: هل ينجح اليمن في تفادي الانهيار المالي؟

مشاورات خطة الإنقاذ: هل ينجح اليمن في تفادي الانهيار المالي؟

« أم تي آي » أ.د. عبدالوهاب العوج

تسلط هذه المقالة الضوء على المباحثات التي أجراها رئيس مجلس الوزراء اليمني سالم صالح بن بريك مع رئيس بعثة صندوق النقد الدولي لليمن اشتر بيريز رويز، والتي تمت يوم أمس عبر تقنية الاتصال المرئي بمشاركة سعادة السفير محمد آل جابر. تمثل هذه المشاورات محطة فارقة في مسار الاقتصاد اليمني المنهك، حيث يأتي الدخول في تفاصيل خطة إنقاذ شاملة والبحث في حزمة تمويلية طارئة ليعكس عمق الأزمة ويضع اليمن أمام لحظة حاسمة في تقرير مصيره المالي. وتشير التقديرات إلى أن هذه الحزمة قد تكون المنقذ الأخير لمنع انهيار كامل لمالية الدولة (IMF Staff Consultation Report, 2024)، خاصة في ظل تجاوز العجز المالي 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2023 وانكماش الاقتصاد بنسبة 2% خلال نفس العام.

لم يكن الاجتماع مجرد لقاء بروتوكولي، بل حمل أبعاداً سياسية واقتصادية عميقة. استعرضت الحكومة خلاله ما تحقق من إصلاحات في السياسات النقدية والمالية التي أسهمت في تحسين نسبي لسعر صرف العملة والحد من التضخم، حيث تراجع المعدل من ذروته البالغة 45% في 2021 إلى نحو 30% في 2023 (World Bank, Yemen Economic Monitor 2023). من جهته، ركز الصندوق على نتائج مشاورات المادة الرابعة التي تُعد الأداة الأساسية لتقييم الاقتصاد الوطني وقياس مدى جدية الحكومة في تنفيذ الإصلاحات، وهو ما سيحدد مستوى الدعم والتمويل الممكن توفيره خلال الفترة القادمة (IMF Article IV Consultations, Yemen).

لا تكمن الأهمية في الجانب المالي وحده، بل في الاعتراف الدولي الذي يمنحه الصندوق للحكومة اليمنية من خلال هذه المشاورات. يعزز هذا الاعتراف شرعية الحكومة في المحافل الدولية ويمنحها القدرة على جذب دعم إضافي من المانحين، لاسيما من دول الخليج العربي التي مثل تدخلها الاقتصادي والإنمائي رافعة رئيسية لاستمرار وفاء الدولة بالتزاماتها. وقد أشار رئيس الوزراء بوضوح إلى الدور الكبير للسعودية والإمارات في تثبيت الاقتصاد خلال السنوات الماضية، مما يبرز أن أي خطة إنقاذ لا يمكن أن تنجح دون تنسيق خليجي مباشر مع الصندوق.

غير أن هذه الحزمة التمويلية الطارئة، إذا ما تم الاتفاق النهائي بشأنها، لن تكون مجانية. ستكون مشروطة بمواصلة الإصلاحات القاسية التي غالباً ما ترتبط بتقليص الدعم الحكومي ورفع الضرائب وإعادة هيكلة الإنفاق العام، وهو ما قد يفاقم الضغوط الاجتماعية على المواطنين، خصوصاً في ظل وضع إنساني هش يشهد انهيار الخدمات الأساسية وارتفاع معدلات الفقر إلى 80% من السكان وفقاً لتقارير الأمم المتحدة والبنك الدولي (World Bank Yemen Economic Update, 2023). يُذكر أن أكثر من 17.6 مليون يمني يعانون انعداماً حاداً في الأمن الغذائي حسب تقرير برنامج الأغذية العالمي (WFP, 2023)، مما يجعل التحدي مزدوجاً: كيف يمكن للحكومة أن توازن بين متطلبات الصندوق وشروطه وبين الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار الاجتماعي.

ولا يمكن تحليل الأزمة المالية والاقتصادية في اليمن بمعزل عن العامل السياسي والأمني المُؤسس لها، والذي تمثل في الانقلاب الذي قادته الجماعة الحوثية على السلطة الشرعية نهاية عام 2014. لم يفتت ذلك الانقلاب الاستقرار السياسي فحسب، بل أسس لانقسام نقدي ومؤسسي حاد، حيث أنشأت الجماعة الحوثية في المناطق الخاضعة لسيطرتها نظاماً مالياً موازياً استهدف البنك المركزي في العاصمة صنعاء، مما أدى إلى تعدد سياسات الطباعة النقدية وتضاربها وساهم بشكل رئيسي في الانهيار الكارثي لقيمة العملة الوطنية التي فقدت أكثر من 500% من قيمتها منذ 2015، وتفاقم التضخم.

وعلى صعيد الموارد، لم تكتفِ الجماعة الحوثية بمنع تصدير النفط والغاز عبر سيطرتها على ميناء رأس عيسى النفطي الرئيسي على البحر الأحمر، بل عملت على تعطيل العملية الإنتاجية برمتها عبر استهداف المنشآت النفطية في المناطق الخاضعة للشرعية بوسائل عسكرية مباشرة. فقد استخدمت المسيرات المسلحة لقصف ميناء الضبة النفطي في حضرموت وميناء النشيمة في شبوة، بهدف تخويف الشركات العاملة ومنع تصدير الثروة الوطنية. وحرم هذا العمل الممنهج الخزينة العامة من أهم مصادر الإيرادات بالعملة الصعبة، إذ خسر اليمن أكثر من 1.5 مليار دولار من عائدات النفط والغاز خلال عام 2023 وحده (UN Panel of Experts on Yemen, 2024)، وهو ما يعد شكلاً من أشكال الخنق الاقتصادي.

وتصاعد هذا التهديد ليشمل الأمن الإقليمي والعالمي عبر الهجمات المباشرة والمتكررة التي تنفذها الجماعة الحوثية على ملاحة البحر الأحمر الدولية في باب المندب، مستهدفة ناقلات النفط والسفن التجارية، مما يضع اليمن ليس فقط أمام أزمة مالية وإنما أمام تحدي وجودي مرتبط باستعادة الدولة وسيادتها على مواردها وحدودها.

في هذا السياق، تبرز قضية إعادة تصدير النفط والغاز اليمني كخيار استراتيجي لا يمكن تجاوزه، إذ تمثل عودة الصادرات المورد الأكبر للعملة الصعبة، والوسيلة الوحيدة تقريباً لتقليص الاعتماد على القروض والمساعدات. غير أن استمرار الهجمات على الموانئ والمنشآت النفطية والسفن التجارية في البحر الأحمر من قبل الميليشيات الحوثية وتوقف التصدير النفطي بشكل كلي منذ أواخر 2022، جعل المالية العامة تخسر أهم مصادرها، مما ضاعف من عجز الموازنة وعمّق أزمة السيولة. ولا تنحصر الأهمية في الجانب المالي فحسب، بل تتعداه إلى البعد الجيوسياسي، حيث ستسهم إعادة تصدير النفط والغاز المسال من منشأة بلحاف في استقرار أسواق الطاقة، خاصة في البحر الأحمر والخليج العربي، وهي مناطق ترتبط بشكل مباشر بأمن الطاقة العالمي (Energy Information Administration, Yemen, 2023).

حيث تشير تقديرات وكالة الطاقة الأمريكية ووزارة النفط اليمنية إلى أن اليمن كان ينتج نحو 55–75 ألف برميل يومياً قبل توقف التصدير في أكتوبر 2022 بعد استهداف الحوثيين لموانئ التصدير في شرق اليمن وبخاصة من قطاعات حوض المسيلة-سيؤن (مثل قطاعات 14، 10، 32، 9) وقطاع 5 من حوض السبعتين في مينائي الضبة والنشيمة النفطيين.

وفي هذا الإطار، يصبح دور السعودية والإمارات محورياً، فهما ليستا مجرد داعمين ماليين لليمن، بل هما أيضاً معنيتان بضمان أمن الملاحة في البحر الأحمر واستقرار سوق النفط والغاز، ومن مصلحتهما المباشرة عودة الإنتاج اليمني بشكل آمن ومنظم. هذا البعد الإقليمي يجعل من إعادة التصدير قضية تتداخل فيها مصالح اليمن مع مصالح جيرانه الخليجيين الداعمين للاستقرار والتنمية في اليمن، وعلى رأسها السعودية والإمارات، مما يمنح الحكومة اليمنية فرصة لتعزيز شراكتها الاستراتيجية مع هذين البلدين الشقيقين وتحويل الدعم القائم من المساعدات الآنية إلى استثمارات طويلة الأمد وشراكات دائمة مرتبطة بقطاع الطاقة والاستثمار والتنمية المستدامة.

إلى جانب ذلك، تمثل إعادة تشغيل مصفاة عدن خطوة محورية لإعادة هيكلة قطاع الطاقة. فالمصفاة التي كانت تاريخياً العمود الفقري لتكرير النفط وتوفير المشتقات محلياً تعطلت بفعل الحرب والإهمال، وأدى توقفها إلى زيادة الاعتماد على الاستيراد للمشتقات النفطية عبر تجار، وتم إقصاء الجهة الحكومية وهي شركة النفط اليمنية التي كانت تتولى توزيع المشتقات النفطية وتتكامل مع مصفاة عدن في استيراد النفط الخام أو المشتقات التي تنقص في السوق نتيجة انخفاض القدرة التشغيلية للمصفاة. وللأسف، يقوم تجار المشتقات النفطية الآن باحتكار استيرادها وبيعها بأسعار مرتفعة، مما عمّق أزمة الوقود وانعكس على كلفة المعيشة والنقل والإنتاج وغيره من قطاعات الاقتصاد.

إن إعادة تشغيل المصفاة والتكامل مع مكونات وزارة النفط لا يعني فقط تخفيف الضغط على النقد الأجنبي، بل يفتح مجالاً لخلق فرص عمل جديدة وتعزيز الأمن الطاقوي وتأثيره على قطاعات كثيرة، كما يمنح الحكومة ورقة قوة في المفاوضات مع صندوق النقد والمانحين، عبر ربط الدعم الدولي بمشاريع إنتاجية مستدامة وليس فقط ببرامج طوارئ قصيرة الأجل لا تخدم التنمية ولا الاستقرار وخطط التعافي القصيرة والمتوسطة والطويلة الأمد (World Bank Energy Sector Brief, 2022).

تضع تجارب الدول الأخرى أمام اليمن مرآة واضحة، ففي لبنان على سبيل المثال دخلت الحكومات المتعاقبة في مشاورات المادة الرابعة منذ سنوات، غير أن غياب الإصلاحات الفعلية وتغليب المصالح السياسية والانقسام المجتمعي الذي عمقه التنوع والاختلافات الدينية والمذهبية على القرارات الاقتصادية، جعل صندوق النقد يتردد في تقديم حزمة إنقاذ جادة، وهو ما سرّع من الانهيار المالي هناك (IMF Lebanon Staff Report, 2022). وفي السودان أيضاً، ورغم الوصول إلى اتفاقيات مبدئية مع الصندوق في 2021، فإن الاضطرابات السياسية وعدم الاستقرار المؤسسي أعاقا تحويل تلك التفاهمات إلى برامج فاعلة، فبقيت البلاد رهينة أزمات التضخم وانعدام الثقة (IMF Sudan Country Report, 2021).

بالمقارنة، فإن اليمن يقف اليوم أمام لحظة مشابهة، لكنه يمتلك فرصة ضيقة للنجاح إذا تمكن من استثمار الاعتراف الدولي الحالي، وتفعيل الإصلاحات بطريقة متدرجة تأخذ في الحسبان البعد الاجتماعي، والأهم من ذلك ربط الدعم المالي بخطط واضحة لزيادة الإيرادات المحلية وتعزيز الشفافية في إدارة الموارد، إضافة إلى إعادة تشغيل قطاع الطاقة ولجم شراء الكهرباء بالأمر المباشر وما رافق ذلك من أخطاء وفساد وضرورة إنتاج الطاقة بطرق مختلفة وتفعيل صادرات النفط والغاز باعتبارها شريان الحياة الرئيسي للاقتصاد اليمني، وهو ما قد يقنع المانحين بتوسيع حجم التمويل وضمان استدامته.

لم تعد مشاورات المادة الرابعة مجرد تقييم تقني للأرقام، بل باتت اختباراً لمدى قدرة الحكومة اليمنية على صياغة عقد اقتصادي جديد يوازن بين شروط المؤسسات المالية الدولية وبين الضرورات الوطنية للحفاظ على السلم الاجتماعي. وإذا فشلت هذه المحاولة فإن الاقتصاد اليمني قد يدخل مرحلة انهيار مشابهة لما جرى في لبنان، أما إذا نجحت فإنها ستفتح الباب أمام مرحلة من التعافي التدريجي المدعوم إقليمياً ودولياً.

أ.د. عبدالوهاب العوج

أكاديمي ومحلل سياسي يمني

المراجع:

IMF Staff Consultation Report, Yemen, 2024

IMF Article IV Consultations, Yemen

World Bank Yemen Economic Update, 2023

World Bank Yemen Economic Monitor, 2023

Energy Information Administration, Yemen, 2023

World Food Programme, Yemen, 2023

UN Panel of Experts on Yemen, 2024

World Bank Energy Sector Brief, 2022

IMF Lebanon Staff Report, 2022

IMF Sudan Country Report, 2021

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

الأكثر شهرة

احدث التعليقات