« أم تي آي نيوز » كتب : د/ نجيب حسان
رغم ما تمتلكه إيران من احتياطات ضخمة من النفط والغاز جعلتها في مصاف الدول الغنية بالموارد الطبيعية، إلا أن هذه الثروة لم تُترجم إلى رفاهية للشعب الإيراني، بل تحوّلت إلى وقود لمغامرات سياسية وعسكرية عابرة للحدود.
فقد اختارت طهران منذ قيام ما أسمته الثورة الإسلامية في 1979 أن تجعل من تصدير “الثورة” مشروعًا عابرًا للحدود ووضعت ذلك في ماده 154 من دستورها ، ممولًا في الأساس من عائدات النفط، لتكون النتيجة عقودًا من العزلة الدولية، العقوبات الاقتصادية، والانهيار الداخلي التدريجي.
استخدمت إيران ثروتها النفطية في تمويل حلفاء وأذرع عسكرية في لبنان ، سوريا ، العراق ، واليمن ، ما جعلها لاعبًا رئيسيًا في عدة صراعات دامية بالمنطقة.
هذه المغامرات لم تكن مجانية؛ بل تطلّبت ميزانيات ضخمة أتت على حساب الاقتصاد الوطني، مما أدى إلى تراجع الإنفاق الحكومي على الخدمات الأساسية داخل إيران، في مقابل دعم الحروب الخارجية.
سياسات طهران التوسعية قوبلت بعقوبات غربية صارمة، خصوصًا من الولايات المتحدة، شملت صادرات النفط، النظام المالي، وقطاعات حيوية أخرى.
وقد كان لهذه العقوبات تأثير مدمر: تقلّصت عائدات النفط إلى مستويات متدنية، وتدهورت قيمة العملة الإيرانية، وتفاقمت نسب التضخم والبطالة.
بدلًا من أن تُستخدم موارد الدولة لتحسين جودة الحياة، أُهدرت في صراعات لا طائل منها، بينما وجد المواطن الإيراني نفسه عاجزًا عن توفير حاجاته الأساسية من الدواء والغذاء والسكن.
شعبيا ، انعكست هذه السياسة الخارجية العدوانية على الداخل الإيراني من خلال تآكل الثقة الشعبية في النظام، وتزايد الاحتجاجات التي قابلها النظام بالقمع ، تظاهرات متكررة خرجت في طهران ومدن أخرى تندد بإنفاق الدولة على الحروب الخارجية بينما يعيش الإيرانيون تحت خط الفقر. كما أدى تردي الوضع المعيشي إلى هجرة العقول والكفاءات، وتراجع الاستثمارات المحلية والأجنبية.
أصبح المواطن الإيراني اليوم يسأل بمرارة: لماذا نُحرم من الكهرباء والمياه النظيفة والدواء، بينما تُرسل المليارات لدعم ميليشيات في دول أخرى؟ وأي جدوى تعود على إيران من التحكم ببيروت أو صنعاء، بينما شوارع طهران تغرق في الفقر والبطالة؟
لقد تحولت مغامرات إيران النفطية إلى عبء ثقيل على الدولة والمجتمع. فبدل أن تكون الثروة النفطية أداة لبناء إيران قوية مزدهرة، أصبحت لعنة غذّت وهم الهيمنة الإقليمية على حساب الازدهار الداخلي.
الدرس الواضح من التجربة الإيرانية هو أن تصدير الثورة لا يغني عن رغيف الخبز، وأن أي مشروع خارجي لا يُبنى على أساس رفاه المواطن، فهو مشروع خاسر في نهاية المطاف.
بالمقابل إستفادت الدول الخليجية من ثرواتها في بناء الإنسان والأوطان ، وأثبتت تجربة دول الخليج أن الثروات وحدها لا تبني الأوطان، بل الإدارة الحكيمة والرؤية المستقبلية ، فبينما بددت بعض الدول النفطية ثرواتها في مغامرات عسكرية أو مشاريعوهمية، استثمرت دول الخليج في الإنسان، ونجحت في خلق هوية تنموية مستقرة، قابلة للاستمرار بعد عصر النفط.
منذ اكتشاف النفط في منطقة الخليج العربي، تحوّلت دول الخليج من مجتمعات بسيطة إلى دول ذات بنى تحتية حديثة ونظم اقتصادية متطورة. ورغم أن النفط كان حاضرًا في معادلة القوة والاقتصاد، فإن ما ميّز هذه الدول هو توجهها، بدرجات متفاوتة، نحو استثمار العائدات النفطية في بناء الإنسان وتطوير الوطن، في تجربة تنموية فريدة في العالم العربي.
ساهم هذا الاستثمار في الداخل في تحقيق درجة عالية من الاستقرار السياسي والاجتماعي. فمعظم شعوب الخليج تنعم بخدمات صحية وتعليمية مجانية أو مدعومة، ومستوى دخل مرتفع مقارنة بباقي الدول العربية، وبنى تحتية تضاهي الدول المتقدمة. هذا الاستقرار وفّر بيئة خصبة لجذب الاستثمارات الأجنبية، ومنح الخليج مكانة دولية باعتباره شريكًا اقتصاديًا موثوقًا.
إضافة إلى ذلك، فإن العمل الإنساني الخليجي ترك بصمة قوية حول العالم، حيث ساهمت كثير من المؤسسات الخليجية في تمويل التعليم والصحة والإغاثة في دول عديدة، ما عزز الصورة الإيجابية لهذه الدول.
تجربة دول الخليج هي تجربة عربية ملهمة، تؤكد أن بناء الوطن يبدأ من الداخل، وأن الرفاه لا يتحقق إلا حين تُسخّر الثروات لخدمة المواطن لا لأوهام السياسة.
