إم تي آي نيوز / وكالات
لا تزال الإذاعة تمثل وسيلة مهمة لسماع الأخبار وبناء الرؤى والمعارف وإتاحة النقاش والحوار البناء، منذ نشأتها في القرن التاسع عشر، فضلا عن كونها منصة إعلامية تنبع بعبق التاريخ في الاحتفال بالإنسانية بكل تنوعها، فقد تجاوزت عتبة مئويتها الثانية، حاملة تراثا من الخطاب الواعي الذي يعتمد على المسموع ويلامس شغاف القلوب والعقول، في ظل يسر تكلفتها وقدرتها على الوصول إلى المجتمعات النائية والفئات المستضعفة.
ويسترجع الاحتفال باليوم العالمي للإذاعة عام 2024 التاريخ العريق للإذاعة ودورها التاريخي في تغطية أحداث جسام مرت على العالم والبشرية، على مستوى الوعي والتنوع وكيفية مساهمة الإذاعات المختلفة في نبذ الخلافات ووقف الحروب، وعلى هذا المنوال وضعت الأمم المتحدة مضامين مهمة للأعوام الأخيرة، ففي عام 2023 اختار القائمون على اليوم العالمي أن يكون الشعار هو (الإذاعة والسلام)، بينما كان العام 2022 تحت عنوان (الإذاعة والثقة)، وسبقه العام 2021 باختيار لافتة (إذاعة متجددة لعالم متجدد)، بينما حفل اليوم العالمي للإذاعة عام 2020 بالتركيز على (الإذاعة والتنوع).
وجاءت فكرة الاحتفال بهذا اليوم من قبل الأكاديمية الإسبانية للإذاعة، حيث جرى تقديمها رسميا من قبل الوفد الإسباني لدى اليونسكو في الدورة الـ187 للمجلس التنفيذي في شهر سبتمبر 2011، وأقرته الدول الأعضاء في اليونسكو اليوم العالمي، ثم اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2012 بوصفه يوما دوليا يحتفل به في 13 فبراير من كل عام، تزامنا مع ذكرى إطلاق إذاعة الأمم المتحدة عام 1946، فأصبح بذلك يوما تحتفي به وكالات الأمم المتحدة، وشركاؤها، في جميع أنحاء العالم.
ويهدف الاحتفال باليوم العالمي للإذاعة، لتوفير فرصة لاستعراض تاريخ العمل الإعلامي ومعوقاته ومواطن نجاحه، فهو فرصة لتعزيز التعاون الدولي بين هيئات البث الإذاعي من أجل تشجيع الشبكات الرئيسية ومحطات الإذاعة المحلية على تعزيز الحصول على المعلومات والانتفاع بها والتمتع بحرية التعبير، إذ إن الإذاعة وسيلة ناجعة وفعالة، وتعد محفلا لنشر الخطاب الحضاري المتنوع وتمثيل فئات المجتمع المختلفة والإصغاء إليه.
ويعود تاريخ الإذاعة إلى القرن التاسع عشر، ففي عام 1892، وضع العالم الأمريكي نيكولا تسلا تصميما أساسيا للمذياع، ثم شهد العالم أول بث إذاعي من قبل الإيطالي غوليلمو ماركوني عام 1896 لينال بموجبه براءة اختراع “الراديو” من بريطانيا، ثم توالى تطور الإذاعة بظهور أمواج “أف.أم” عام 1939، فبثت أول إذاعة للأمم المتحدة عام 1946، وفي عام 1954 اخترع “راديو الترانزستور”، فأصبح المذياع متنقلا.
ومع مجيء التقنيات الجديدة وتطور وسائل الإعلام المختلفة، أخذت الإذاعة بالتحول والانتقال إلى منصات بث جديدة، مثل الإنترنت ذات النطاق العريض، والهواتف الخلوية والصفائح الرقمية، ففي عام 1990 ولدت إذاعة الإنترنت والعصر الرقمي، وأطلق أول قمر صناعي إذاعي عام 1992، ثم في 1994 أصبحت “WXYC” أول محطة إذاعية تبث على الإنترنت.
وحتى العام 2015 كان يوجد 51 ألف محطة إذاعية في العالم، ودخلت الإذاعة أكثر من 75% من البيوت في الدول النامية، ووصلت إلى أكثر من 70% من سكان العالم عبر الهواتف المحمولة، حيث يستمع الناس إلى محطات “أي.أم” (AM) و”أف.أم” (FM) عبر أجهزة الراديو أو الهواتف المحمولة، أكثر من الاستماع إليها عبر الأقمار الصناعية (الساتلايت) أوالإنترنت، وتشير إحصاءات العالم الرقمي إلى أن 6.8 مليار هاتف متنقل في العالم، يمكنه أن يصبح مذياعا رقميا.
الجدير ذكره أن النرويج بدأت وقف العمل بالنظام التناظري للبث الإذاعي عبر موجات “الأف.أم” في 11 يناير 2017، مما يجعلها أول دولة في العالم تتحول بصورة كاملة إلى “البث الصوتي الرقمي”، ويتوقع أن يشهد هذا التحرك في النهاية تحول جميع محطات الإذاعة المملوكة للدولة والتجارية إلى نظام البث الرقمي الذي تفيد تقارير بأنه أقوى ويحتاج إلى طاقة أقل للعمل، وفي نفس الوقت يوفر المزيد من القنوات والجودة مقارنة بنظام الأف.أم، ومن بين مبررات التحول إلى تقنية “البث الصوتي الرقمي” الطبيعة الطبوغرافية للنرويج، حيث ينتشر سكان البلاد في صورة تجمعات صغيرة في الجبال والوديان، وهو ما يصعب وصول البث الإذاعي بنظام “أف.أم” إلى كل السكان.
وعلى مدى قرن من الزمان ظلت الإذاعة الوسيلة الإعلامية الأوسع انتشارا، بما تحمله من قدرة فريدة على الوصول إلى الجمهور الأوسع، وتشكيل تجربة المجتمع في التنوع واستعراض ساحة عامة لكل الآراء والمواقف ووجهات النظر، عبر مجموعة متنوعة من البرامج والمحتوى الهادف، رغم أنها تراجعت قليلا في نهاية القرن الماضي بعد دخول التلفاز إلى معظم المنازل عالميا ثم انطلاق عالم وسائل التواصل الاجتماعي في العقد الأخير، حيث باتت المنصات الرقمية تغطي على ما سواها من الوسائل الإعلامية والترفيهية بنسبة تزداد اتساعا، في ظل تسارع عجلة الابتكارات التكنلوجية إلى حد لا يوصف.
ويرمي القائمون على ائتلاف الإذاعات العالمي إلى توعية عامة الناس ووسائل الإعلام بشأن قيمة الخدمات السمعية العامة، وتشجيع متخذي القرارات على تعزيز الإذاعة الحرة والمستقلة والتعددية، وتعزيز الربط الشبكي والتعاون الدولي بين هيئات البث، وتوفير منصة حقيقية للتواصل والاطلاع على الحوادث والوقائع خصوصا في الدول المغلقة القمعية أو خلال فترات الحروب والنكبات عندما تعجز وسائل السمع البصرية والمنصات الرقمية عن ذلك في ظل ظروف انقطاع خدمات الكهرباء والإنترنت.
وتعمل اليونسكو على تنسيق الاحتفال بهذا اليوم في جميع أرجاء العالم، من خلال إشراك منظمات البث الإذاعي الدولية والإقليمية في عملية اختيار موضوع هذا اليوم كل عام، وحشد وتعبئة المحطات الإذاعية الخاصة والعامة وغير الربحية والمهنيين العاملين في مجال الإذاعة لدعم ومناصرة موضوع العام، وكذلك من خلال توفير مضامين غير خاضعة لحقوق المؤلف يمكن نشرها أو بثها، فضلا عن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الشبكية المخصصة لهذا الغرض استخداما واسع النطاق، لضمان المشاركة الافتراضية للمحطات الإذاعية في هذا الصدد.
ويشير الميثاق التأسيسي ليونسكو، إلى أنه لا بد من اعتبار دعم الإذاعات المستقلة جزءا لا يتجزأ من عملية إرساء السلام والاستقرار، فعلى مدى عقود سابقة، كان للإذاعة دور بالغ الأهمية في منع نشوب النزاعات وفي بناء السلام، من خلال البحث في الأسباب الجذرية للنزاعات وحوافزها، منعا لاحتمال اندلاع أعمال العنف، وذلك من خلال البرمجة الإذاعية وخيارات هيئة التحرير المناسبة وانتقاء الضيوف المناسبين، فتساعد البرامج الجادة بطرح قضايا محددة على بساط البحث في تبيان الشوائب المجتمعية، وأسباب الفقر، والنزاعات على الموارد أو الأراضي، ووسائل الفساد، وسباق التسلح، وغيرها من المسائل.
وساهمت الإذاعة المهنية المستقلة في تعزيز الديمقراطية خلال عهود ما بعد الاستعمار منتصف القرن الماضي، وما زالت تمارس دورها في بعض البلدان حتى الآن، بما وفرته من جهود لإرساء السلام الدائم، وخصوصا في الدول الفقيرة والمجتمعات المهمشة، ولذا تقدم البعثات الأممية لحفظ السلام دعمها للمحطات وللبرامج الإذاعية في كثير من البلدان المضيفة.
وتعد الإذاعة وسيلة تواصل وإعلام منخفضة التكلفة، فهي تلائم المجتمعات المحلية وفئات المجتمع التي يصعب الوصول إليها بوجه خاص، وتتمتع بشعبية جارفة لدى المستمعين في جميع أرجاء العالم، إذ يمكن الاستماع إليها في السيارة، والاستعانة بها لمعرفة الطقس والمستجدات الرياضية وقت حدوثها، وهي أيضا وسيلة يتخذها الإنسان رفيقا وخليلا في جوف الليل، ولها مآرب أخرى كثيرة.
وفي الآونة الأخيرة، تطورت الخدمات الإذاعية وشهدت تغيرات كثيرة بمرور الأيام، وهي تتحول في وقتنا الراهن من خلال الوسائل التكنولوجية الرقمية، فيمكن أن تصبح مثلا إذاعة مرئية أو إذاعة متعددة المنصات، من خلال إتاحة البرامج الإذاعية في صيغة مدونات صوتية (البودكاست) أو استحداث مسلسلات إذاعية، وهو ما يمنح المستمعين المزيد من الحرية في اختيار وقت الاستماع إليها والأداة المستخدمة للاستماع إليها.